السبت، 24 يناير 2009

نور العين


ـ راح الولد.

قالت الجدة، وأمسكت جدار صدرها الحزين.

ـ سيعود. قالت الجارة، لتهون من عذاب الجدة، وأضافت:

ـ أخذوا ثلاثة من قبل، وأعادوهم اليوم صباحاً.

لم تسمع الجدة، لأنها كانت خارج اللحظة.

لفّت قطعتي بخور في منديلها، وقطعت المسافة بين العتبة والطريق بسرعة عجوز في العقد الثامن.

ـ أخدو نور العين.. أخدوك يا نور العين!!!

ترددت العبارة في أذنيها رغم الحطة السوداء المغلفة بمنديل حريري أصفر والخطا تسرقها في طريق حجري شقته آلاف الخطا عبر رحلة العبادة الطويلة.

على باب الزيارة البيضاء في أعلى الجبل وسط أشجار البلوط والسنديان والقطلب، ركعت. قبلت العتبة. مسَّدت جبينها العاري فوق مسامها الخشنة، وذرفت ما جادت به عيناها.

انتعش صدرها بالهواء المقدس. خلعت حذاءها، ودخلت مثلما أدمنتِ الدخول.

دارت حول الضريح القديم، قبلت حوافه المشرشرة. قبلت القطع الخضراء ذات الرائحة العتيقة، شمتها. سالت ذاكرتها الأحزان. تجمعت كلها في قطرة ندى، علقت على حافه فمها المشعر المرتجف، نشفتها بقطعة خضراء، ارتسمت في وسطها صورة وجه نور العين الغائب، فسالت الدموع.

جلست في الزاوية،فتحت منديلها، وأخرجت قطعتي البخور، وضعتهما على جبينها، ومسحت رأسها، ثم أوقدتهما في صحن فخاري محروق، وعلى أخيلة الضوء المتراقصة، والرائحة الخصبة، قرأت دعواتها الدافئة.

يا رب يا كريم. يا عالي يا رحيم.

بجاه هـَ الزيارة، ودموع هـَ الختيارة،

تحفظ عبدك المسكين. الغالي نور العين.

وكان دمعها خصباً، هذه العجوز اليابسة.

* * *

جلست في شرفة منزلها، تراقب الشمس في مغيبها، والطريق الملتف حول الجبل، والصاعد في مغيب آخر.

ـ غاب نور العين..!! غابت الشمس وما رجع نور العين..!؟

تمنت لو أنها تمسك الجزء الباقي منها، والعالق خلف التلة الخضراء، لو تمسكه بكلتي يديها لتمنعها من المغيب، حتى يعود نور العين.

الطريق طويل عند المغيب، وبعد المغيب.

قلب جدتك معك، قلبها وروحها، ودعواتها الدافئة.

وتنام الجدة على السرير الخشبي المنصوب في الشرفة منذ دهر.

كانت قد رفعت صحناً مليئاً بطبخة الأمس لحفيدها الغائب.

رفعت "المنخل"، ورمت حصته للدجاج، وغسلته، وانتظرت الموقد القديم الشاحب، لينهي طبخة اليوم، فترفع صحناً آخرعلّ الغائب يأتي اليوم فقد طالت غيبته.

لفّتْ قطعتي بخور، وشقت طريقها عبر الدغل الأخضر الكثيف، ركعت، قبّلتْ، خلعتْ حذاءها، دخلتْ، شمت القطع الخضراء المبعثرة، لفّت رأسها بأكبر واحدة، انطوتْ في زاويتها، توقد البخور، وقلبها، وعينيها، وتُذوِّب دموعاً خصبة أخرى.

وتدعو العالي الكريم، الغفور الرحيم، أن يعيد القلوب، ويجمع الأحبة.

نشَّفت دموعها، ومسحتْ أنفها بطرف تنورتها الواسعة المرقطة، وأخذت نفساً عميقاً، زرع السكينة في قلبها الحزين، فأيقنت أن دعواتها وصلت ، وأن ربها - رب العالم - يرعى نور العين برحمته.

* * *

غابت شمس أخرى، ولف المساء الدار، أغلقت الجدة باب خم الدجاج، وفرشت سريرها، رطبت فمها من جرة، وجلست على طرف السرير، فتحت يديها فوق فخذين يابسين، تثاقل رأسها ذو الحطة السوداء الموشحة، وسال فمها همهمة وصلت أذن السماء الوديعة المرصعة بالدعوات، ثم اتكأتْ، وبعد ساعات غَفَتْ على وقع النجوم.

غصَّ الديك بالبكاء، حزنت الدجاجات، اختبأت حصة " نور العين" في النملية،تحت "المنخل"

ملّ البخور في كيس ورقي قديم.

طال انتظار الجارة لتسمع من فم الجدة، يا الله يا كريم.

الجدّة التي تمددت في السرير الخشبي القديم.

الحطة سقطت على الأرض، ومال رأسها على الجانب الآخر، وافترق خصلاً شعرها الخفيف الرمادي، ليغطي وجهها المؤمن الشاحب.

رأتها الشمس من بعيد، فأرسلت خيوطها الذهبية الدافئة، تحاول بعث الجسد الساكن.. الساكن والبارد.. والبارد.

11/96

هناك تعليق واحد: