الأحد، 25 يناير 2009

قصاصة

أيقظني سعال صديقي المدخِّن، ربما المريض..!! قبل صراخ المفاتيح في الأبواب الحديدية.
كان صباحاً وردياًَ، عندما حرقت يدي. بكيت حتى احمرَّت عيناي.
طيف ألم عبر وجهها الأحمر.
ـ يا حيف..!!
قالت, وهي تستند على بقايا صبر في دمها.
ـ جدَّك اختصر كفّو، وأبوك وقع من الثقالة وما فتح تمّو إلاّ حتى يشرب.
فتحت عينيها الخضراوين، عندما سقط جوابي وتناثر على أرض الدّار:
ـ إي هنِّي كبار..
ـ وإنتِ كبير. روح ماما غسِّل وجهك قبل مايشوفك حدا.
دفنت رأسي بين كتفيّ خجلاً، وانزويت.
اخترق ربيع رأسي أمام المرآة، ومدّني بالخضرة، فعدت إليها بمشاعري الوليدة تلك، وقبل أن تراني، رأيتها.
كانت تبكي، وتمسح دموعها بتنورتها الفضفاضة السوداء، ولم يكن والدي قد ضربها ساعة ئذٍ.
عدت إلى سريري، وبمخدتي التي طرّزت عليها بأصابعها الخشنة "صباح الخير" كتمتُ بكائي، ولم تكن قدمي تؤلمني.. أبداً.
* * *
قالت حبيبتي عنّي "أناني" ثم رحلتْ، فبكت جدران غرفتي والدرجات الثلاث والثمانون، وأصيص حبق، ورفيقة كانت تحلم بنا منقوشين بجوار "صباح الخير".

* * *
جبان، قال صديقي عنّي، وقيّدتني جرأته.
بقيت لوحدي في المسرح الرطب، وغادر هو... غادر ليمارس جرأته.
أمّا أنا فقد مارست العدّ، أتقنت ممارسة العدّ. أعدُّ بلاط الغرفة، ثقوب الجدران. الذباب الطائر. أوقد صمتي، وأعانق الحديد البارد، وأتساءل: ماذا بعد...؟
قالت صديقتي: عطشانة!!
ركضتُ. ملأت كأساً، وعدت أترجرج، فيتدحرج القطر فوق الحواف، لكني لم أجدها.
فوق قصيدتي، كتبت بخط جميل. غبيّ.
نسفت الكأس حتى الثمالة، وفجّرت قصيدتي بعينيّ الضائعة.

* * *
بين برودة المشاعر، وسخونة السياط. نزفتُ صوتي، وشتمتُ أصدقائي، وسالت شتائمي لزجةً فوق الوجوه.
وعندما عدت إلى زنزانتي مستنداً على بقايا جسدي, وندب الجدران, شعرت أني وحيد, شعرت بالفراق.
غطيتُ وجهي بيدي، وبكيتُ، ولم تكن جروحي تؤلمني أبداً, وإنّما قلبي...

* * *
تلقفني "الكردور" الخالي. وقفت على الكراسي المصنوعة من كراتين البيض، أراقب قضبان النافذة العالية, خيال مدينة تبعد كل يوم, وصفارٌ يغطيّ هذا الابتعاد, وصراخٌ يمتدُ كاللبلاب، يعرِّش في أذنيّ، فأعرف أنهم يضربون حتى نتألم.
صرخ سجّان بعيد "انزل من عندك ولاك".
كان الصباح يحبو مكافحاً. سقطتُ، وطار عصفور كان يغطّ قريباً ومضت ضجةٌ تخاف. ارتعشت نسمةٌ كانت تسرِّح جديلتها على أسطر ورقةٍ, نسيت معلقةً فوق الجدار.
تركت له خيال المدينة، وصراخ السياط, وقطرتي ندى, نضجتا للتوّ, تركت له كل شيء يملكه صباح ورديّ.
عدت إلى مهجعي إلى عتمة زاويتي، لأتزين بضوء خفيف.
أحمر من مصباح نصبَتْه يداي، وأرسم ظلاً نام تحته سؤالي التائه:
تَرى, لماذا كانت أمّي تبكي يومها؟!!

6/96

السبت، 24 يناير 2009

نور العين


ـ راح الولد.

قالت الجدة، وأمسكت جدار صدرها الحزين.

ـ سيعود. قالت الجارة، لتهون من عذاب الجدة، وأضافت:

ـ أخذوا ثلاثة من قبل، وأعادوهم اليوم صباحاً.

لم تسمع الجدة، لأنها كانت خارج اللحظة.

لفّت قطعتي بخور في منديلها، وقطعت المسافة بين العتبة والطريق بسرعة عجوز في العقد الثامن.

ـ أخدو نور العين.. أخدوك يا نور العين!!!

ترددت العبارة في أذنيها رغم الحطة السوداء المغلفة بمنديل حريري أصفر والخطا تسرقها في طريق حجري شقته آلاف الخطا عبر رحلة العبادة الطويلة.

على باب الزيارة البيضاء في أعلى الجبل وسط أشجار البلوط والسنديان والقطلب، ركعت. قبلت العتبة. مسَّدت جبينها العاري فوق مسامها الخشنة، وذرفت ما جادت به عيناها.

انتعش صدرها بالهواء المقدس. خلعت حذاءها، ودخلت مثلما أدمنتِ الدخول.

دارت حول الضريح القديم، قبلت حوافه المشرشرة. قبلت القطع الخضراء ذات الرائحة العتيقة، شمتها. سالت ذاكرتها الأحزان. تجمعت كلها في قطرة ندى، علقت على حافه فمها المشعر المرتجف، نشفتها بقطعة خضراء، ارتسمت في وسطها صورة وجه نور العين الغائب، فسالت الدموع.

جلست في الزاوية،فتحت منديلها، وأخرجت قطعتي البخور، وضعتهما على جبينها، ومسحت رأسها، ثم أوقدتهما في صحن فخاري محروق، وعلى أخيلة الضوء المتراقصة، والرائحة الخصبة، قرأت دعواتها الدافئة.

يا رب يا كريم. يا عالي يا رحيم.

بجاه هـَ الزيارة، ودموع هـَ الختيارة،

تحفظ عبدك المسكين. الغالي نور العين.

وكان دمعها خصباً، هذه العجوز اليابسة.

* * *

جلست في شرفة منزلها، تراقب الشمس في مغيبها، والطريق الملتف حول الجبل، والصاعد في مغيب آخر.

ـ غاب نور العين..!! غابت الشمس وما رجع نور العين..!؟

تمنت لو أنها تمسك الجزء الباقي منها، والعالق خلف التلة الخضراء، لو تمسكه بكلتي يديها لتمنعها من المغيب، حتى يعود نور العين.

الطريق طويل عند المغيب، وبعد المغيب.

قلب جدتك معك، قلبها وروحها، ودعواتها الدافئة.

وتنام الجدة على السرير الخشبي المنصوب في الشرفة منذ دهر.

كانت قد رفعت صحناً مليئاً بطبخة الأمس لحفيدها الغائب.

رفعت "المنخل"، ورمت حصته للدجاج، وغسلته، وانتظرت الموقد القديم الشاحب، لينهي طبخة اليوم، فترفع صحناً آخرعلّ الغائب يأتي اليوم فقد طالت غيبته.

لفّتْ قطعتي بخور، وشقت طريقها عبر الدغل الأخضر الكثيف، ركعت، قبّلتْ، خلعتْ حذاءها، دخلتْ، شمت القطع الخضراء المبعثرة، لفّت رأسها بأكبر واحدة، انطوتْ في زاويتها، توقد البخور، وقلبها، وعينيها، وتُذوِّب دموعاً خصبة أخرى.

وتدعو العالي الكريم، الغفور الرحيم، أن يعيد القلوب، ويجمع الأحبة.

نشَّفت دموعها، ومسحتْ أنفها بطرف تنورتها الواسعة المرقطة، وأخذت نفساً عميقاً، زرع السكينة في قلبها الحزين، فأيقنت أن دعواتها وصلت ، وأن ربها - رب العالم - يرعى نور العين برحمته.

* * *

غابت شمس أخرى، ولف المساء الدار، أغلقت الجدة باب خم الدجاج، وفرشت سريرها، رطبت فمها من جرة، وجلست على طرف السرير، فتحت يديها فوق فخذين يابسين، تثاقل رأسها ذو الحطة السوداء الموشحة، وسال فمها همهمة وصلت أذن السماء الوديعة المرصعة بالدعوات، ثم اتكأتْ، وبعد ساعات غَفَتْ على وقع النجوم.

غصَّ الديك بالبكاء، حزنت الدجاجات، اختبأت حصة " نور العين" في النملية،تحت "المنخل"

ملّ البخور في كيس ورقي قديم.

طال انتظار الجارة لتسمع من فم الجدة، يا الله يا كريم.

الجدّة التي تمددت في السرير الخشبي القديم.

الحطة سقطت على الأرض، ومال رأسها على الجانب الآخر، وافترق خصلاً شعرها الخفيف الرمادي، ليغطي وجهها المؤمن الشاحب.

رأتها الشمس من بعيد، فأرسلت خيوطها الذهبية الدافئة، تحاول بعث الجسد الساكن.. الساكن والبارد.. والبارد.

11/96

اللذة

رضيعٌ..

يثيره دفء الحليب،

فيعضّ..

ثدي أمّه

المرار

طعم الكلمات

في..

مجرور السياسة.

الخميس، 1 يناير 2009

النشوة

بعثره..

يرسمها صغير ببوله

على اسفلت..

الكلمات..!!

ميلاد


أوقدني بالتعب

أطفئ غيابي بالتراب

برفيف برق عار

امسح ظل المطر الشّارد

بقطرة شمس.

حبيبي..

ولنختصر ميلادنا

قزحاً ذائباً.

مهنة

اختصرته الآلام، فأمسى

طيفاً

هطل جميلاً كالمطر.

مجروحاً

تفجّر بين الصخور،

مُتقناً..

مهنة..

الصمت.

اعتقال وردي

غمز الصباح، فاحمر وجه الشمس، ضحك الديك بجوار التنور، تمط النبع، وأطلقها، فاستحم العصفور.

زعل الماء، وذاب، ثم هام على وجهه بين الصخور.

زقزق الباب. وخرج أبو محمود يسعل، ويدرج لفافة تبغ، ثم ذهب ليبول خلف أشجاره.

تثاءب الحطب، وطقطق متفاجئاً، ثم لنكمش حائراً بين يدي أم محمود.

احمر التنور ووجهها، فانتشى رغيف خبز، وسكر الهواء.

نعست لفافة في صحن الدار، فرفع رأسه عن كتابه الشاحب.

مسح عينيه، وعندما تنهد، انتفخت مثانته.

هرع، واختفى بين الأشجار.

سخر الكتاب، فصفعته نسمه، تخوصر، وهز ورقاته شاتماً، وهي تمضي هاربةً، تهز ذيلها الناعم.

استل يديه، واغتسل، وعاد يفرغ كتابه في جوفه الفارغ.

سعل أبو حسن منبِّهاً بقدومه.

ـ قح...قح... الله يصبحك بالخير أم محمود.

تلتفت أم محمود مبتسمة:

ـ الله يسعد صباحك.. ابعت أم حسن.. جمَّر التَّنّور.

أبو محمود كان يدرج لفافه.

ـ يسعد صباحك أبو حسن.. تفضّل.!!

ـ أَفْضَلْت.

رفع محمود عينيه عن الكتاب، وفرك جبينه:

ـ أهلين عمي أبو حسن... رجع حسن؟!

ـ رجع... إي والله رجع.. الحمد لله .. الحمد لله...

أجاب، وهو يهز رأسه، وينفخ نهاية قلق مع بقايا دخان.

احمر رغيف، ووجهها، ولفافه، ورأسه، وحركه في صحن الدار.

سيارة رمادية، أنجيت أربعة رجال، وابتلعت خمسه.

وقف الكتاب، فصفعته نسمة، وقع رغيف فوق الجمر وقرمّد..

يبست ْ يدها في عود الحطب، واشتعل النبض في صدرها الحار.

عاد راكضاً، يدرج لهفة أنفاسه، فرأى سيارة، تسرق الطريق، وتختفي في عينيه. تهالك، ثم عاد ليغيب في بستانه ببطء.

تأخر الصباح. جلس الديك في صحن الدار. تململ النّبع، فانسل الماء ذائباً. غطّ الحطب، تردد العصفور، ثم أطفأ ريشه المتوتر في سلس القطرات.

أم حسن تحمل قدر العجين فوق رأسها.

ـ الله يصبحكم بالخير. أم محمود ماخبزتي اليوم؟! التنور مطفي!!!

الله يصبحك بالخير أبو محمود... اعمل معروف وساعدني حتى نزِّل هـَ الطشت!!

ينهض أبو محمود بتثاقل حزين، يسعل ويهمهم ـ الحمد لله... الحمد لله...

يقترب، فتسأله أم حسن:

ـ شو صاير.. انشا الله خير.. ما رجع محمود؟!!

10/ 96

ذات العلامة

موقف الباص لا يبعد عن منزله كثيراً، إلا أنه كان يشعر أن المسافة طويلة, وكان يقطعها بملل وضجر كبيرين.

تحت سقفه، كان ينتظر الحافلة، التّي تقلّه إلى المعمل.

صوتها مملٌّ كحركتها ، شاحبٌ كوجوه ركّابها العمال.

يميل إلى جدار النافذة، وتلتقط عيناه صور الطّريق الكئيب، ثم يشرد عن كل شيء.

مساءً . أدار اسطوانة ، وعلى وقع موسيقاها ، أكمل طبخة الغد.

قرن ساعته على السّادسة ، وانتظر هبوب أول موجة نعاس على جفنيه، لينام . ونام.

رنّت السّاعة . فضّل أن يتأخر في السّرير قليلاً ، ويضحّي بفنجان قهوته، وظلَّ يتأخّر، فضحّى بنشرة الأخبار حتى داهمته صورة اقتطاع أجرة يوم من راتبه، فقفز ، اغتسل، ولبس، وخرج مسرعاً .

تحت الموقف كانت صبيّةٌ تنتظر شيئاً ما ... ربما حافلة!!

على خدّها الشّاحب، علامة جرح قديم كبير ومقرف!!!

شعر بالقرف من منظره، وقبل أن يقرف حتى التّخمة، جاءت حافلته، وطغتْ - لحسن الحظ – بدخان محرّكها على أول صورة صباحيّة مُقرفة...

صباح اليوم التّالي، كانت هناك أيضاً ، تنتظر.

فتساءل، من تكون؟!

ثم فكّر، هذا صباح آخر سيمرّ ساخراً ، عبر فم جرح قديم ملتئم.

كانت ترتدي قميصاً ، أبيض، خفيفاً ، وتنورة سوداء ضيّقة، تصل حتى الرّكبتين. اقترب من زاوية الموقف البعيدة ، عندما كانت رفوف السّيّارات، تصرخ وتفرقع، وتتهادى بعيداً في محيط المدينة . كان يعرف أن الجرح القديم يراقبه بحياد.

مساءً جرح يده ، وهو يقطّع أصابع الفاصولياء.

اسطوانته التي كان يسمعها كل يوم ، فلم تستطع أن تطفئ قلقاً ، بدأ ينمو في مفاصل أمانه الفطري ...

صباحاً ، تذكر أنه يملك قنينة عطر صغيرة، مسح رقيته وكفيّه ، وخرج مزهوّاً تحت جناحي رائحة زكيّة.

كانت تعقد شعرها الطّويل الأسود كالليل بشريطة بيضاء خفيفة كالفراشة ، وقميصها الخفيف كورق الورد، يُغطّي عصفورين يحاولان الطيران...!!

وسيطيران لا محالة.

أما خدّها، فقد أشرق وعلامته كانت توقظ بحنان ، واستغرب، كيف رآها مزعجةً ... قبل ئذ.

في صباح آخر، كانت ذات العلامة ، قد خطت طرفي عينيها اللّوزيتين بكحل أسود خفيف، وكان جرحها القديم ، يتكئ على خدّها كملاك خفيف فوق غيمة خفيفة...

نام تلك اللّيلة ممتلئاً ، غمرت كيانه أحلاماً ناعمةً ، وصحا قبل أن ترنَّ السّاعة.

صحا دافئاً خفيفاً كالشعاع، اختصر قهوته، واختصر صباحه، واختصر خطواته، ليصل إلى زاويته تحت الموقف الحنون.

وكانت تنتظر هناك. طوت نظرتها، فعرف أنّها رأتْه .

قال: صباح الخير. مختصرةً . مترددةً.

وهزّت رأسها، وفتحت فمهان وقطع صوتها هدير حافلة قروية، لكنه سمع رغم أن صوتها لم يصل أطراف أذنيه...

انحرف إلى السوق مساءً ، واشترى من أحد حوانيت الورد، وردةً بيضاء..

تلك الليلة لم يقرن ساعته على السادسة. استرخى في سريره. لم يجهّز طبخة الغد، ولم يسمع موسيقاه المفضّلة، لأن صوت ذات العلامة ، كان يتردد شجيّاً، فيتوقّد بفواصل موسيقاه ويميل خجولاً على أطراف أطراف أنامله المتجمرِّة ، ويتجمّر .

وفاجأته آخر الليل - قبل أن ينام بقليل- صورة متلبّسة بصوتها وبرحيق جرح قديم خفيف ورقيق كقطرة ماء على جدار جرّة أملس كالصباح. ثم نام في أحضان الورود.

صحا قبل الشمس. شرب فيروز مع قهوته. قلبه كان يرقص مع رائحة أنثى غريبة وبعيدة، ترسم بصمتها، مكاناً، يعبره الثّلج والصّبح والأطفال.

صباح الخير.

صباح الخير.

وكانت السماء تفتح صدرها، وتطوّق بذراعيها لفافة موقف صغير يحمل كائنين ناعمين خفيفين، ووردة ، سيفترقان بعد قليل مع هدير حافلتين قاسيتين.

وتسابقت السّاعات، ليمضي نهارٌ آخر، ومرت الثّواني واخزةً تحت أظافره بشوك طولها.

ومساءً كان عليه أن يسمع موسيقاه مرّات عدّة، قبل أن ينفذ ليلٌ آخر من عمره، ويتركه مشحوناً كندف الصّوف.

صباحاً . لم يجدها، ولا صباح اليوم التالي,

وتوالت أيامه مثقلةً برائحة المدينة، بألم زفير ثقيل وحار، بغرابة مفاصل معدنية ، تطوّقه، وتخرج روحه ببطء، فقد اختفت فتاة الصبح، غابت إلى الأبد ذات العلامة.

9/2000