الخميس، 1 يناير 2009

ذات العلامة

موقف الباص لا يبعد عن منزله كثيراً، إلا أنه كان يشعر أن المسافة طويلة, وكان يقطعها بملل وضجر كبيرين.

تحت سقفه، كان ينتظر الحافلة، التّي تقلّه إلى المعمل.

صوتها مملٌّ كحركتها ، شاحبٌ كوجوه ركّابها العمال.

يميل إلى جدار النافذة، وتلتقط عيناه صور الطّريق الكئيب، ثم يشرد عن كل شيء.

مساءً . أدار اسطوانة ، وعلى وقع موسيقاها ، أكمل طبخة الغد.

قرن ساعته على السّادسة ، وانتظر هبوب أول موجة نعاس على جفنيه، لينام . ونام.

رنّت السّاعة . فضّل أن يتأخر في السّرير قليلاً ، ويضحّي بفنجان قهوته، وظلَّ يتأخّر، فضحّى بنشرة الأخبار حتى داهمته صورة اقتطاع أجرة يوم من راتبه، فقفز ، اغتسل، ولبس، وخرج مسرعاً .

تحت الموقف كانت صبيّةٌ تنتظر شيئاً ما ... ربما حافلة!!

على خدّها الشّاحب، علامة جرح قديم كبير ومقرف!!!

شعر بالقرف من منظره، وقبل أن يقرف حتى التّخمة، جاءت حافلته، وطغتْ - لحسن الحظ – بدخان محرّكها على أول صورة صباحيّة مُقرفة...

صباح اليوم التّالي، كانت هناك أيضاً ، تنتظر.

فتساءل، من تكون؟!

ثم فكّر، هذا صباح آخر سيمرّ ساخراً ، عبر فم جرح قديم ملتئم.

كانت ترتدي قميصاً ، أبيض، خفيفاً ، وتنورة سوداء ضيّقة، تصل حتى الرّكبتين. اقترب من زاوية الموقف البعيدة ، عندما كانت رفوف السّيّارات، تصرخ وتفرقع، وتتهادى بعيداً في محيط المدينة . كان يعرف أن الجرح القديم يراقبه بحياد.

مساءً جرح يده ، وهو يقطّع أصابع الفاصولياء.

اسطوانته التي كان يسمعها كل يوم ، فلم تستطع أن تطفئ قلقاً ، بدأ ينمو في مفاصل أمانه الفطري ...

صباحاً ، تذكر أنه يملك قنينة عطر صغيرة، مسح رقيته وكفيّه ، وخرج مزهوّاً تحت جناحي رائحة زكيّة.

كانت تعقد شعرها الطّويل الأسود كالليل بشريطة بيضاء خفيفة كالفراشة ، وقميصها الخفيف كورق الورد، يُغطّي عصفورين يحاولان الطيران...!!

وسيطيران لا محالة.

أما خدّها، فقد أشرق وعلامته كانت توقظ بحنان ، واستغرب، كيف رآها مزعجةً ... قبل ئذ.

في صباح آخر، كانت ذات العلامة ، قد خطت طرفي عينيها اللّوزيتين بكحل أسود خفيف، وكان جرحها القديم ، يتكئ على خدّها كملاك خفيف فوق غيمة خفيفة...

نام تلك اللّيلة ممتلئاً ، غمرت كيانه أحلاماً ناعمةً ، وصحا قبل أن ترنَّ السّاعة.

صحا دافئاً خفيفاً كالشعاع، اختصر قهوته، واختصر صباحه، واختصر خطواته، ليصل إلى زاويته تحت الموقف الحنون.

وكانت تنتظر هناك. طوت نظرتها، فعرف أنّها رأتْه .

قال: صباح الخير. مختصرةً . مترددةً.

وهزّت رأسها، وفتحت فمهان وقطع صوتها هدير حافلة قروية، لكنه سمع رغم أن صوتها لم يصل أطراف أذنيه...

انحرف إلى السوق مساءً ، واشترى من أحد حوانيت الورد، وردةً بيضاء..

تلك الليلة لم يقرن ساعته على السادسة. استرخى في سريره. لم يجهّز طبخة الغد، ولم يسمع موسيقاه المفضّلة، لأن صوت ذات العلامة ، كان يتردد شجيّاً، فيتوقّد بفواصل موسيقاه ويميل خجولاً على أطراف أطراف أنامله المتجمرِّة ، ويتجمّر .

وفاجأته آخر الليل - قبل أن ينام بقليل- صورة متلبّسة بصوتها وبرحيق جرح قديم خفيف ورقيق كقطرة ماء على جدار جرّة أملس كالصباح. ثم نام في أحضان الورود.

صحا قبل الشمس. شرب فيروز مع قهوته. قلبه كان يرقص مع رائحة أنثى غريبة وبعيدة، ترسم بصمتها، مكاناً، يعبره الثّلج والصّبح والأطفال.

صباح الخير.

صباح الخير.

وكانت السماء تفتح صدرها، وتطوّق بذراعيها لفافة موقف صغير يحمل كائنين ناعمين خفيفين، ووردة ، سيفترقان بعد قليل مع هدير حافلتين قاسيتين.

وتسابقت السّاعات، ليمضي نهارٌ آخر، ومرت الثّواني واخزةً تحت أظافره بشوك طولها.

ومساءً كان عليه أن يسمع موسيقاه مرّات عدّة، قبل أن ينفذ ليلٌ آخر من عمره، ويتركه مشحوناً كندف الصّوف.

صباحاً . لم يجدها، ولا صباح اليوم التالي,

وتوالت أيامه مثقلةً برائحة المدينة، بألم زفير ثقيل وحار، بغرابة مفاصل معدنية ، تطوّقه، وتخرج روحه ببطء، فقد اختفت فتاة الصبح، غابت إلى الأبد ذات العلامة.

9/2000

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق