كان صباحاً وردياًَ، عندما حرقت يدي. بكيت حتى احمرَّت عيناي.
طيف ألم عبر وجهها الأحمر.
ـ يا حيف..!!
قالت, وهي تستند على بقايا صبر في دمها.
ـ جدَّك اختصر كفّو، وأبوك وقع من الثقالة وما فتح تمّو إلاّ حتى يشرب.
فتحت عينيها الخضراوين، عندما سقط جوابي وتناثر على أرض الدّار:
ـ إي هنِّي كبار..
ـ وإنتِ كبير. روح ماما غسِّل وجهك قبل مايشوفك حدا.
دفنت رأسي بين كتفيّ خجلاً، وانزويت.
اخترق ربيع رأسي أمام المرآة، ومدّني بالخضرة، فعدت إليها بمشاعري الوليدة تلك، وقبل أن تراني، رأيتها.
كانت تبكي، وتمسح دموعها بتنورتها الفضفاضة السوداء، ولم يكن والدي قد ضربها ساعة ئذٍ.
عدت إلى سريري، وبمخدتي التي طرّزت عليها بأصابعها الخشنة "صباح الخير" كتمتُ بكائي، ولم تكن قدمي تؤلمني.. أبداً.
* * *
قالت حبيبتي عنّي "أناني" ثم رحلتْ، فبكت جدران غرفتي والدرجات الثلاث والثمانون، وأصيص حبق، ورفيقة كانت تحلم بنا منقوشين بجوار "صباح الخير".
* * *
جبان، قال صديقي عنّي، وقيّدتني جرأته.
بقيت لوحدي في المسرح الرطب، وغادر هو... غادر ليمارس جرأته.
أمّا أنا فقد مارست العدّ، أتقنت ممارسة العدّ. أعدُّ بلاط الغرفة، ثقوب الجدران. الذباب الطائر. أوقد صمتي، وأعانق الحديد البارد، وأتساءل: ماذا بعد...؟
قالت صديقتي: عطشانة!!
ركضتُ. ملأت كأساً، وعدت أترجرج، فيتدحرج القطر فوق الحواف، لكني لم أجدها.
فوق قصيدتي، كتبت بخط جميل. غبيّ.
نسفت الكأس حتى الثمالة، وفجّرت قصيدتي بعينيّ الضائعة.
* * *
بين برودة المشاعر، وسخونة السياط. نزفتُ صوتي، وشتمتُ أصدقائي، وسالت شتائمي لزجةً فوق الوجوه.
وعندما عدت إلى زنزانتي مستنداً على بقايا جسدي, وندب الجدران, شعرت أني وحيد, شعرت بالفراق.
غطيتُ وجهي بيدي، وبكيتُ، ولم تكن جروحي تؤلمني أبداً, وإنّما قلبي...
* * *
تلقفني "الكردور" الخالي. وقفت على الكراسي المصنوعة من كراتين البيض، أراقب قضبان النافذة العالية, خيال مدينة تبعد كل يوم, وصفارٌ يغطيّ هذا الابتعاد, وصراخٌ يمتدُ كاللبلاب، يعرِّش في أذنيّ، فأعرف أنهم يضربون حتى نتألم.
صرخ سجّان بعيد "انزل من عندك ولاك".
كان الصباح يحبو مكافحاً. سقطتُ، وطار عصفور كان يغطّ قريباً ومضت ضجةٌ تخاف. ارتعشت نسمةٌ كانت تسرِّح جديلتها على أسطر ورقةٍ, نسيت معلقةً فوق الجدار.
تركت له خيال المدينة، وصراخ السياط, وقطرتي ندى, نضجتا للتوّ, تركت له كل شيء يملكه صباح ورديّ.
عدت إلى مهجعي إلى عتمة زاويتي، لأتزين بضوء خفيف.
أحمر من مصباح نصبَتْه يداي، وأرسم ظلاً نام تحته سؤالي التائه:
تَرى, لماذا كانت أمّي تبكي يومها؟!!
6/96